تفسير المراغي - ج ٢٤

أحمد مصطفى المراغي

اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦))

تفسير المفردات

يوم يقوم الأشهاد : هو يوم القيامة ، والأشهاد : واحدهم شهيد بمعنى شاهد ، والهدى : ما يهتدى به من المعجزات والصحف والشرائع ، والإبكار : أول النهار إلى نصفه ، والعشى : من النصف إلى آخر النهار ، والسلطان : الحجة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه في أول السورة أنه لا يجادل في آيات الله إلا القوم الكافرون ، ثم رد على أولئك المبطلين المجادلين تسلية لرسوله وتصبيرا له على تحمل أذى قومه ـ أردف ذلك وعده له بالنصرة على أعدائه في الدنيا والآخرة ، وتلك سنة الله ، فهو ينصر الأنبياء والرسل ويقيّض لهم من ينصرهم على أعدائهم ؛ ويملأ قلوبهم بنور اليقين ، ويلهمهم أن النصرة لهم آخرا مهما تقلبت بهم الأمور.

الإيضاح

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي إنا لنجعل رسلنا هم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم ، وننصر معهم من آمن بهم في الحياة الدنيا إما بإعلائهم على من كذبوهم كما فعلنا بداود وسليمان ، فأعطيناهما من الملك والسلطان ما قهرا به كل كافر ، وكما فعلنا بمحمد صلّى الله عليه وسلم بإظهاره على من كذبه من قومه ، وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل كما فعلنا بنوح وقومه من إغراقهم وإنجائه ، وكما فعلنا بموسى وفرعون وقومه ، إذ أهلكناهم غرقا ونجينا موسى

٨١

ومن آمن معه من بنى إسرائيل ـ وإما بانتقامنا منهم بعد وفاة رسلنا كما نصرنا شعيبا بعد مهلكه بتسليطنا على من قتله من سلّطنا حتى انتصرنا بهم ممن قتله.

وكذلك ننصرهم عليهم يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة لرسلها ـ بالشهادة بأن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وأن الأمم قد كذبتهم.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) أي يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم ، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل كما حكى سبحانه عنهم من قولهم : «وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ».

(وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي ولهم في هذا اليوم الطرد من رحمة الله ، ولهم شر ما في الآخرة من العذاب الأليم ، والقرار في سواء الجحيم.

ولما بين أنه ينصر الأنبياء والمرسلين في الدنيا والآخرة ذكر نوعا من تلك النصرة فى الدنيا فقال :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ. هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي ولقد أعطينا موسى من المعجزات والشرائع ما يهتدى به الناس في الدنيا والآخرة ، وأنزلنا عليه التوراة هدى لقومه ، فتوارثوها خلفا عن سلف وصارت هداية لهم وتذكرة لأولى العقول السليمة التي بعدت من شوائب التقليد والوهم.

وبعد أن بين سبحانه أنه ينصر رسله والمؤمنين وضرب لذلك مثلا بحال موسى خاطب نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم بقوله :

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي فاصبر أيها الرسول لأمر ربك ، وبلّغ قومك ومن أمرت بإبلاغه ما أنزل إليك ، وأيقن بأن الله منجز وعده ، وناصرك وناصر من صدقك وآمن بك ، على من كذبك

٨٢

وأنكر ما جئت به من عند ربك ، وسل ربك غفران ذنبك وعفوه عنك ، وصلّ شكرا له طرفى النهار كما جاء في الآية الأخرى : «وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ».

وقد يكون المراد من ذلك المواظبة على ذكر الله وألا يفتر اللسان عنه ، ولا يغفل القلب حتى يدخل في زمرة الملائكة الذين قال سبحانه في وصفهم : «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ».

ولما ابتدأ عزّ اسمه بالرد على الذين يجادلون في آيات الله واتصل الكلام بعضه ببعض على النسق المتقدم ، نبه هنا إلى السبب الذي يحملهم على تلك المجادلة فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي إن الذين يخاصمونك أيها الرسول فيما أتيتهم به من عند ربك من الآيات بغير حجة ـ ما يحملهم على هذا الجدل إلا كبر في صدورهم يمنعهم عن اتباعك وعن قبول الحق الذي جئتهم به ، إذ لو سلموا بنبوتك لزمهم أن يكونوا تحت لوائك وطوع أمرك ونهيك ، لأن النبوة ملك ورياسة ، وهم في صدورهم كبر لا يرضون معه أن يكونوا فى خدمتك ، وما هم ببالغي موجب الكبر وهو دفع الرياسة والنبوة عنك ، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وليس ذلك بالذي يدرك بالأمانى.

والخلاصة ـ إنه ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والحسد لك ، وما هم ببالغي إرادتهم فيه ، فإن الله قد أذلهم.

ثم أمر رسوله أن يستعيذ من هؤلاء المجادلين المستكبرين ، فيقيه من أذاهم وشرهم ويكلؤه ويحفظه منهم فقال :

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي فالتجىء إلى الله تعالى في دفع كيد من يشنؤك ويبغى عليك ، فهو السميع لأفوالهم ، البصير بأفعالهم ، لا يخفى عليه شىء منها.

٨٣

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩)).

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنهم يجادلون في آيات الله بغير سلطان ، وكان من جدلهم أنهم ينكرون البعث ، ويعتقدون استحالته ، ويعملون أقيسة وهمية ، وقضايا جدلية ، كقولهم : «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟» وقولهم : «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» ذكر هنا برهانا يؤيد إمكان حدوثه ويبعد عن أذهانهم استحالته ، وهو خلقه للسموات والأرض ابتداء على عظم أجرامهما ، ومن قدر على ذلك فهو قادر على إعادتكم كما جاء في الآية الأخرى : «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ».

الإيضاح

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) أي لخلق السموات والأرض ابتداء من غير سبق مادة ـ أعظم في النفوس وأجل في الصدور ، من خلق الناس لكبر أجرامهما ، واستقرارهما من غير عمد ، وجريان الأفلاك بالكواكب بلا سبب ، وقد جرت العادة في مزاولة الأفعال أن علاج الشيء الكبير أشق من علاج الشيء الصغير ، فمن قدر على ذلك قدر على ما دونه كما قال : «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

٨٤

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن هؤلاء المشركين لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها ولا يعلمون أن الله لا يعجزه شىء.

وبعد أن ذكر سبحانه الجدل بالباطل ذكر مثلا للمجادل بالباطل والمحق بين به أنهما لا يستويان فقال :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي وما يستوى الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه فيتدبرها ويعتبر بها ، فيعلم وحدانيته وقدرته على خلق ما يشاء ويؤمن بذلك ويصدق به ـ والمؤمن الذي يرى بعينيه تلك الحجج فيتفكر فيها ويتعظ بها ويعلم ما تدل عليه من توحيده وعظيم سلطانه وقدرته على خلق الأشياء جميعها صغيرها وكبيرها ، وقد ضرب لهما مثل الأعمى والبصير ، ليستبين ذلك الفارق على أتم وجه وأعظم تفصيل ، فما الأمثال إلا وسائل للايضاح تبين للناس المعقولات وهى لابسة ثوب المحسوسات ، فيتضح ما أنبهم منها وخفى من أمرها كما قال : «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي وكذلك لا يستوى المؤمنون المطيعون لربهم والعاصون المخالفون لأمره ، ونحو الآية قوله : «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ».

(قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) أي ما أقل ما تتذكرون حجج الله فتعتبرون بها وتتعظون ، ولو تذكرتم واعتبرتم لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون من إنكاركم قدرة الله على إحياء من فنى من خلقه وإعادته لحياة أخرى غير هذه الحياة.

ولما قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة والبعث والنشر ـ أردفه الإخبار بأنه واقع لا محالة فقال :

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي إن يوم القيامة الذي يحيي فيه الله الموتى للثواب والعقاب لآت لا شك فيه ، فأيقنوا بمجيئه ، وأنكم مبعوثون من بعد مماتكم ،

٨٥

ومجازون بأعمالكم ، فتوبوا إلى ربكم واشكروا له جزيل إنعامه ، ليدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، وفيها ترون ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يصدّقون بمجيئه ، ومن ثم ركبوا رءوسهم وعاثوا في الأرض فسادا ، واجترحوا السيئات دون خوف الرقيب الحسيب.

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)).

تفسير المفردات

ادعوني : أي اعبدوني ، أستجب لكم : أي أثبكم على عبادتكم إياى ، داخرين : أي صاغرين أذلاء ، لتسكنوا فيه : أي لتستريحوا فيه ، مبصرا : أي يبصر فيه ،

٨٦

تؤفكون : أي تصرفون ، قرارا : أي مستقرا ، بناء : أي قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب للسكنى فيها ، فتبارك : أي تقدس وتنزه ، الدين : الطاعة.

المعنى الجملي

بعد أن أثبت أن يوم القيامة حق ، وكان المرء لا ينتفع فيه إلا بطاعة الله والتضرع له ، وأشرف أنواع الطاعات الدعاء أي العبادة ، لا جرم أمر الله تعالى بها في هذه الآية.

ولما كانت العبادة لا تنفع إلا إذا أقيمت الأدلة على وجود المعبود ، ذكر من ذلك تعاقب الليل والنهار وخلق السموات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة ورزقه من الطيبات.

الإيضاح

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي اعبدوني أثبكم ، هكذا روى عن ابن عباس والضحاك ومجاهد في جماعة آخرين ، ويؤيده أن القرآن كثيرا ما استعمل الدعاء بمعنى العبادة كقوله : «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً» وما رواه النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ : «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي إلى قوله : داخِرِينَ». أخرجه الترمذي والبخاري في الأدب والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية.

ويجوز أن يراد بالدعاء والاستجابة معناهما الظاهر ، ويرجحه ما روى عن عائشة قالت : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الدعاء الاستغفار» وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من لم يدع الله يغضب عليه». أخرجه أحمد والحاكم.

وعن معاذ بن جبل أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال «لا ينفع حذر من قدر ، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، فعليكم بالدعاء» أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني ،

٨٧

وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الدعاء مخ العبادة» أخرجه الترمذي ،

وعن ابن عباس قال : «أفضل العبادة الدعاء» وقرأ هذه الآية ، وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم أي العبادة أفضل؟ فقال : دعاء المرء لنفسه».

ثم صرح سبحانه بأن المراد من الدعاء العبادة فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أي إن الذين يتعظمون عن إفرادى بالعبادة وإفرادى بالألوهة سيدخلون جهنم صاغرين أذلاء.

وفي هذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله ، وفيه لطف بعباده عظيم ، وإحسان إليهم كبير ، من حيث توعد من ترك طلب الخير منه ، واستدفاع الشر بالدعاء بهذا الوعيد البالغ ، وعاقبه بهذه العقوبة الشديدة ، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم إليه ، وعوّلوا فى كل مطالبكم على من أمركم بتوجيهها إليه ، وأرشدكم إلى التوكل عليه ، وكفل لكم الإجابة بإعطاء مطالبكم ، وحصول رغباتكم ، فهو الكريم الجواد الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم ، وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا.

ولما أمر بالدعاء ، والاشتغال به لا بد أن يسبق بمعرفة المدعوّ ـ ذكر الدليل عليه بذكر بعض نعمه فقال :

(١) (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي إن الله الذي لا تصلح الألوهة إلا له ، ولا تنبغى العبادة لغيره ـ هو الذي جعل الليل للسكون والاستراحة من الحركة والتردد في طلب المعاش والحصول على ما يفى بحاجات الحياة.

(٢) (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي وجعل النهار مضيئا بشمسه ذات البهجة والرواء ، لتتصرفوا فيه بالأسفار ، وجوب الأقطار ، والتمكن من مزاولة الصناعات ، ومختلف التجارات.

٨٨

ثم ذكر نتيجة لما تقدم فقال :

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي فهو المتفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى ، ولا يمكن أن تستقصى.

ثم بين أن كثيرا من عباده جحدوا هذه النعم ، واستكبروا عن عبادة المنعم فقال :

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعم ، ولا يعترفون بها ، إما لجحودهم وكفرهم بها كما هو شأن الكفار ، وإما لإهمالهم النظر وغفلتهم عما يجب من شكر المنعم كما هو حال الجاهلين.

ونحو الآية قوله : «إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ» وقوله : «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ».

ثم بين كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده فقال :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) أي ذلكم الذي فعل كل هذا ، وأنعم عليكم بهذه النعم هو الله الواحد الأحد خالق جميع الأشياء لا إله غيره ولا رب سواه ، فكيف تنقلبون عن عبادته ، والإيمان به وحده ، مع قيام البرهان الساطع ، والدليل الواضح ، وتعبدون غيره من الأصنام التي لا تخلق شيئا وهى مخلوقة منحوتة بأيديكم.

ثم ذكر أن هؤلاء ليسوا ببدع في الأمم قبلهم ، بل قد سبقهم إلى هذا خلق كثير فقال :

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي كما ضل هؤلاء بعباده غير الله ضل وأفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان ، بل للجهل والهوى.

وبعد أن ذكر من الدلائل تعاقب الليل والنهار ذكر منها خلق الأرض والسماء فقال :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) أي الله الذي جعل لكم الأرض مستقرا تعيشون عليها ، وتتصرفون فيها ، وتمشون في مناكبها ، وجعل لكم السماء سقفا محفوظا مزينا بنجوم ينشأ عنها الليل والنهار والظلام والضياء.

٨٩

وبعد أن ذكر دلائل الآفاق والأكوان ـ ذكر دلائل الأنفس فقال :

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي وخلقكم فأحسن خلقكم ، إذ خلق كلا منكم منتصب القامة ، بادى البشرة ، متناسب الأعضاء ، مهيأ لمزاولة الصناعات ، واكتساب الكمالات ، ورزقكم من طيبات المطاعم والمشارب.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم ، هو الذي لا تنبغى الألوهة إلا له ، ولا تصلح الربوبية لغيره ، لا من لا ينفع ولا يضر ، فتقدس سبحانه وتنزه وهو رب العالمين.

ثم نبه إلى وحدانيته وأمر بإخلاص العبادة فقال :

(هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي هو الحي الذي لا يموت ، وما سواه فمنقطع الحياة غير دائمها ، لا معبود بحق غيره ولا تصلح الألوهة إلا له ، فادعوه مخلصين له الطاعة ، ولا تشركوا في عبادته شيئا سواه من وثن أو صنم ، ولا تجعلوا له ندّا ولا عدلا.

ثم أمر عباده أن يحمدوه على جزيل نعمه وجليل إحسانه فقال :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي احمدوه سبحانه فهو مالك جميع أصناف الخلق من ملك وإنس وجن ، لا الآلهة التي تعبدونها ، ولا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فضلا عن نفع غيرها وضره ، وعن ابن عباس أنه قال : «من قال لا إله إلا الله فليقل إثرها : الحمد لله رب العالمين» وذلك قوله : «فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ

٩٠

مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))

المعنى الجملي

بعد أن أثبت سبحانه لنفسه صفات الجلال والكمال ـ أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأنه نهى عن عبادة غيره ، وأورد ذلك بألين قول وألطفه ، ليصرفهم عن عبادة الأوثان ، ثم بين أن سبب النهى هو البينات التي جاءته ، إذ قد ثبت بصريح العقل أن إله العالم الذي تجب عبادته هو الموصوف بصفات العظمة ، لا الأحجار المنصوبة ، والخشب المصوّرة ، ثم ذكر أنه بعد أن نهى عن عبادة غيره أمر بعبادته تعالى ، وقد ذكر من الأدلة على وجوده خلق الأنفس على أحسن الصور ورزقها من الطيبات ، ثم تكوين الجسم من ابتداء كونه نطفة وجنينا إلى الشيخوخة ثم الموت.

الإيضاح

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك من قريش وغيرهم : إنى نهيت أن أعبد ما تعبدون من دون الله من وثن أو صنم ، حين جاءتنى الأدلة من عند ربى وهى آيات الكتاب الذي أنزله علىّ وهى مؤيدة لأدلة العقل ومنهة لها.

وجملة ذلك ـ إن الآيات التنزيلية مفسرات للآيات التي في الأكوان والأنفس.

٩١

ولما بين أنه نهى عن عبادة غير الله ـ أردف ذلك أنه أمر بعبادته تعالى فقال :

(وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي وأمرت أن أنقاد له تعالى وأخلص له دينى.

ثم ذكر من الدلائل على وجوده تعالى تكوين الإنسان من ابتداء النطفة إلى وقت الشيخوخة فقال :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي هو الذي خلقكم من التراب ، إذ كل إنسان مخلوق من المنى ، والمنى مخلوق من الدم ، والدم يتولد من الأغذية ، والأغذية تنتهى إلى النبات ، والنبات يتكون من التراب والماء ـ ثم ذلك التراب يصير نطفة ثم علقة إلى مراتب كثيرة حتى ينفصل الجنين من بطن الأم.

وقد رتب سبحانه عمر الإنسان ثلاث مراتب :

(١) الطفولة. (٢) بلوغ الأشد. (٣) الشيخوخة ، ومن الناس من يتوفى قبل المرتبة الأخيرة. وهو يفعل ذلك لتبلغوا الأجل المسمى وهو يوم القيامة ، ولتعقلوا ما في التنقل في هذه الأطوار المختلفة من فنون العبر والحكم.

وكما استدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر ـ استدل على ذلك بانتقال الإنسان من الحياة إلى الموت ، ومن الموت إلى الحياة فقال :

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي قل لهم أيها الرسول : هو الذي يحيى من يشاء بعد مماته ، ويميت من يشاء من الأحياء وإذا أراد كون أمر من الأمور التي يريد تكوينها ، فإنما يقول له كن فيكون بلا معاناة ولا كلفة.

وهذا تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات حين تعلق إرادته بوجودها ، وتصوير سرعة ترتب المكوّنات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور.

٩٢

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦))

تفسير المفردات

الكتاب : القرآن ، يسحبون : أي يجرّون ، الحميم : الماء الحار ، يسجرون : أي يحرقون ، يقال سجر التنور إذا ملأه بالوقود ، ومنه : «وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ» أي : المملوء ، ضلوا عنا : أي غابوا ، تفرحون : أي تبطرون ، تمرحون : تختالون أشرارا وبطرا.

المعنى الجملي

عود على بدء بالتعجيب من أحوال المجادلين الشنيعة وآرائهم الفاسدة ، والتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بالقرآن وسائر الكتب والشرائع ، وترتيب الوعيد على ذلك.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ؟) أي انظر واعجب من هؤلاء المكابرين في آياتنا الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدل فيها ،

٩٣

كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي على الإقبال عليها وانتفاء الصوارف عنها ، وقيام الأدلة على صحتها ، وأنها في نفسها موجبة للتوحيد.

ثم بين صفات هؤلاء المبطلين بقوله :

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) أي هم الذين كذبوا بالقرآن وبجميع ما أرسلنا به رسلنا ، من إخلاص العبادة له سبحانه ، والبراءة مما يعبد من دونه من الآلهة والأنداد ، والاعتراف بالبعث بعد الممات.

ثم هددهم وأوعدهم على ما يفعلون فقال :

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) أي فسوف يعلم هؤلاء المكذبون حقيقة ما نخبرهم به وصدق ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب ، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم ، يسحبون بها فى الحميم ، فينسلخ كل شىء عليهم من جلد ولحم وعروق ، ثم تملأ بهم النار.

ونحو الآية قوله : (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ)» وقوله : «خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ».

ثم ذكر أنهم يسألون سؤال تبكيت وتوبيخ عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها فقال :

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي ثم يسألون ويقال لهم : أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله ليغيثوكم وينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب؟ فيجيبون ويقولون : غابوا عنا وأخذوا طريقا غير طريقنا وتركونا في البلاء ـ لا ، بل الحق أننا ما كنا ندعوا فى الدنيا شيئا يعتدّ به ، وهذا كما نقول حسبت أن فلانا شىء فإذا هو ليس بشىء ، إذا خبرته فلم تر عنده خيرا.

والخلاصة ـ إنهم اعترفوا بأن عبادتهم إياها كانت عبادة باطلة.

٩٤

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) أي كما أضل الله تعالى هؤلاء وأبطل أعمالهم ، كذلك يفعل بأعمال جميع من يدين بالكفر فلا ينتفعون بشىء منها.

ثم بين السبب فيما يأتيهم من هذا العذاب فقال :

(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) أي هذا الذي فعلنا بكم اليوم من شديد العذاب ، بسبب فرحكم لذى كنتم تفرحونه في الدنيا ، بارتكاب الشرك والمعاصي ، ومرحكم وبطركم فيها بتمتعكم باللذات.

(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم كما قال تعالى : «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» خالدين فيها أبدا ، فبئس منزل المتكبرين على الله في الدنيا أن يوحّدوه ويؤمنوا برسله ـ جهنم.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)).

المعنى الجملي

كان الكلام من أول السورة إلى هنا في تزييف طرق المجادلين في آيات الله ، وهنا أمر رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم ، إن الله سينجز له ما وعده من النصر والظفر على قومه ، ويجعل العاقبة له ولمن اتبعه من المؤمنين في الدنيا والآخرة.

٩٥

الإيضاح

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أي فاصبر أيها الرسول على ما يجادلك به هؤلاء المشركون فى آيات الله التي أنزلها عليك وعلى تكذيبهم إياك ، فإن الله منجز لك فيهم ما وعدك من الظفر بهم ، والعلوّ عليهم ، وإحلال العقاب بهم ، إما في الدنيا وإما في الآخرة كما قال :

(فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أي فإما نرينّك فى حياتك بعض الذي نعدهم من العذاب والنقمة كالقتل والأسر يوم بدر فذاك ما يستحقونه أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يرجعون يوم القيامة ، فنجازيهم بأعمالهم وننتقم منهم أشد الانتقام ، ونأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

ونحو الآية قوله : «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ».

ثم قال مسلّيا رسوله :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أي ولقد أرسلنا رسلا وأنبياء من قبلك إلى أممهم ، منهم من أنبأناك بأخبارهم في القرآن وبما لا قوه من قومهم وهم خمسة وعشرون ، ومنهم من لم نقصص عليك فيه خبرهم ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينهم وبين أقوامهم.

وعن أبى ذر قال : «قلت يا رسول الله كم عدّة الأنبياء؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا» رواه الإمام أحمد.

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي وليس في الرسل أحد إلا آتاه الله آيات ومعجزات جادله قومه فيها وكذبوه ، وجرى عليه من الإيذاء ما يقارب ما جرى عليك فصبر على ما أوذى ، وكانوا يقترحون عليه المعجزات على سبيل

٩٦

التعنت والعناد لا للحاجة إليها ، فكان من الحكمة عدم إجابتهم إلى ما طلبوا ، ولم يكن ذلك بقادح في نبوتهم ، فلا عجب أن يقترح قومك عليك المعجزات التي لم يكن إظهارها صلاحا ، ولا جرم إذ لم يجابوا إلى ما طلبوا ، لأن المصلحة في عدم إجابتهم إليه.

(فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) أي فإذا جاء أمر الله وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين قضى بالعدل ، فنجّى رسله والذين آمنوا معهم ، وأهلك الذين افتروا على الله الكذب وجادلوا في آياته وزعموا أن له شركاء.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١))

المعنى الجملي

بعد أن أوعد المبطلين وبالغ في ذلك بما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ـ عاد إلى ذكر الدلائل على وجوده ووحدانيته بذكر نعمة من نعمه التي لا تحصى ، ثم لفت أنظارهم إلى ما يحيط بهم من أدلة هم عنها معرضون.

الإيضاح

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) المراد من الأنعام هنا :الإبل خاصة ، لأنها ذات المنافع التي ذكرت في الآية ، وقد عدد سبحانه لها الفوائد التالية :

٩٧

(١) أكلها واستعمالها طعاما لهم ولضيفانهم ، وقد كانوا يتفاخرون بنحرها عند قدوم الطارق.

(٢) لها منافع أخرى كالأوبار والأصواف التي تتخذ منها بيوت الشّعر والملابس الصوفية وقد كانوا يستعملونها كثيرا ، ولألبان التي تستعمل شربا ويستخرج منها الجبن ليكون إداما لهم في طعامهم وسائر حاجتهم المعيشية والجلود التي تدبغ لتكون نعالا وفرشا على ضروب شتى.

(٣) استعمالها للنجعة وطلب مساقط الغيث لحاجتهم إلى الكلأ والقوت لهم ولما شيتهم والسفر من صقع إلى صقع ومن قطر إلى آخر ، وهى لما لها من خفّ مفرطح أنسب حيوان للسير في رمال الصحراء ومن ثم قالوا «الجمل سفينة الصحراء» وقال شاعرهم يصف ذلك :

ما فرّق الألّاف بعد الله إلا الإبل

وما غراب البين إلّا ناقة أو جمل

وقد كانت من أهم سبل المواصلات في الأزمنة الغابرة في البر كما كانت السفن كذلك في البحر.

ونحو الآية قوله في سورة النحل «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ».

ثم ذكر أن هناك آيات من آياته الباهرة التي لا مجال لإنكارها فقال :

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) أي إنه تعالى له آيات يراها خلقه عيانا ويشاهدونها متجددة كل يوم وفي كل آن.

وفي كل شىء له آية

تدل على أنه واحد

٩٨

فأيّا منها تنكرون وبأيها تعترفون ، وهى ظاهرة بادية للعيان لا سبيل إلى جحدها.

وقصارى ذلك ـ إنكم لا تقدرون على إنكار شىء من آياته إلا أن تعاندوا وتكابروا.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)).

المعنى الجملي

ختم سبحانه هذه السورة بتهديد الذين يجادلون في آياته ، طلبا للرياسة والجاه ، والحصول على المال ، وكسب حظوظ الدنيا ، وأبان أن هذه الدنيا فانية ذاهبة ، فما فيها من مال وجاه ظل زائل ، لا يغنى عنهم من الله شيئا ، وقد ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم ممن كانوا أكثر عددا وأشد قوة وآثارا في الأرض فلم ينفعهم شىء من ذلك حين حل بهم بأس الله ، ثم ذكر أن المكذبين حين رأوا البأس تركوا الشرك وآمنوا بالله وحده ، وأنّى لهم ذلك؟ ، وهيهات هيهات.

فذلك لا يحديهم فتيلا ولا قطميرا ، سنة الله في عباده ألا ينفع الإيمان حين حلول العذاب.

صاح هل ريت أو سمعت براع

ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب؟

٩٩

الإيضاح

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أفلم يسر هؤلاء المجادلون في آيات الله من مشركى قريش ـ فى البلاد ، فإنهم أهل سفر إلى الشام واليمن ، فينظروا فيما وطئوا من البلاد ـ إلى ما حل بالأمم قبلهم ، ويشاهدوا ما أحللنا بهم من بأسنا حين تكذيبهم رسلنا ، وجحودهم بآياتنا ، وكيف كانت عاقبة أمرهم ، وقد كانوا أكثر منهم عددا ، وأشد بطشا ، وأقوى جندا ، وأبقى في الأرض أثرا ، لأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا ، ويتخذون مصانع ، ويبنون أهراما ضخمة ، فلما جاءهم بأسنا ، وحلت بهم نقمتنا لم يغن ذلك عنهم شيئا ، ولا رد عنهم العذاب الذي حل بهم.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فلما جاء هذه الأمم المكذبة للرسل من أرسلوا إليهم بالأدلة الواضحة ، والبراهين الظاهرة ، فرحوا بما عندهم من شبهات ظنوها علما نافعا كقولهم : «وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» وقولهم : «لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا» وقولهم : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟)» ولكن حل بهم ما كانوا يستعجلون به رسلهم استهزاء وسخرية.

وقد سمى ما عندهم من العقائد الزائفة ، وشبههم الدّاحضة علما ، تهكما واستهزاء بهم.

ثم ذكر حالهم حين عاينوا العذاب فقال :

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي فلما عاينوا عذابنا النازل بهم قالوا آمنا بالله ، وكفرنا بتلك المعبودات الباطلة ، والآلهة الزائفة ، التي لا تجدى فتيلا ولا قطميرا.

١٠٠